المسؤولية الجنائية للطبيب

تثير ممارسة النشاط الطبي مهما اختلفت طبيعته، العديد من المشاكل و بالتالي الكثير من الاهتمام. و لعل من أبرز هذه المشاكل ما يتصل بالمسؤولية الجنائية الناتجة عن تلك الممارسة حيث تحتك النصوص القانونية بمجال علمي صرف.

فالبحث في موضوع المسؤولية الجنائية للطبيب ليس بالأمر السهل باعتبار أن الممارسة الطبية نشاط علمي يتحلى بالطابع الإنساني و له مساس مباشر بجسم الإنسان و حياته. لذا فقد أثارت هذه المسؤولية العديد من الجدل لدى الفقه و القضاء المغربي. خاصة و أن الطبيب شخص جند نفسه من أجل القيام بعمل إنساني يتصل بإنقاذ حياة المريض و تحقيق سلامته الجسدية و النفسية، و من تم لا يتصور أمام هذه المهمة الإنسانية الجسيمة أن يجد نفسه فجأة أمام هدفين كلاهما مطلوب تحقيقه:

الأول : حماية المرضى مما قد يصدر عن الأطباء من أخطاء تكون لها آثار سيئة و ضمان توفير العناية الطبية اللازمة من خلال تأكيد مسؤولية الأطباء.

الثاني : توفير الحرية اللازمة للأطباء في ممارسة مهامهم. ففعل الطبيب يجب أن يتم في جو كاف من الثقة و الاطمئنان حتى يستطيع أن يطور عمله، و يتمكن البحث العلمي من الرقي و التطور. و هو ما يعد مكسبا للمريض وللإنسانية جمعاء.

لذلك و لاعتبارات التطور الاجتماعي (تزايد وعي الرأي العام) و التطور الفني و التقني للعلوم الطبية تطورت فكرة المسؤولية الطبية عن الأخطاء العمدية التي تشمل حالتي الإهمال و الخطأ الجسيم. الأمر الذي يلزم الطبيب من حيث المبدأ ببذل العناية المطلوبة بعد الأخذ بكل الأسباب المتاحة لتحقيق النتيجة المرجوة: صحة المريض و سلامة العمل الطبي المنجز.

و في ضوء ذلك فإن الشخص لا يكون مسؤولا عن جريمة معينة إلا إذا كان قد تسبب ماديا في حدوثها أي ثبت وجود سببية بين نشاطه المادي و النتيجة الإجرامية، و يكون متمتعا بالأهلية المطلوبة لتحمل التبعة والمتمثلة في عنصري الإدراك و التمييز، أي تكون هذه الجريمة قد تمت إما عن عمد و إما عن خطأ.

و بناء على ما تقدم يمكننا تحديد المسؤولية الجنائية للطبيب بالالتزام القانوني القاضي بتحمله الجزاء نتيجة اقترافه فعل أو الامتناع عن فعل يشكل مخالفة للقواعد و الأحكام التي قررتها التشريعات الجنائية أو الطبية، و من تم تمتنع المسؤولية الجنائية للطبيب إذا كان فعله يرتكز إلى أساس قانوني توافرت فيه الشروط التي استقر عليها الفقه و القضاء لمشروعية العمل الطبي.

و هكذا يتضح أن قيام المسؤولية الجنائية من عدمها تتأرجح بين ما هو قانوني – يتضمن النصوص التشريعية العامة و القوانين الخاصة بمهنة الطب – و بين ما هو موضوعي يضم مجموعة من المبادئ المتعارف عليها في إطار العمل الطبي. الشيء الذي يستدعي التدقيق في كل محاولة للتوفيق بين إدانة الطبيب في حالة مخالفته للنصوص القانونية العامة و الخاصة و بين تبرئته إذا احترم المبادئ المتفق عليها طبيا.
بل إن الأمر يفرض التدقيق أكثر على اعتبار أنه في التشريع الجنائي المغربي تختلف تجليات المسؤولية الجنائية باختلاف طبيعة الجريمة، هل هي جريمة عمدية يتوفر لدى مرتكبها القصد الجنائي العام والخاص و ما لهذا الأخير من تأثير على تكييفها و تشديد أو تخفيف العقوبة فيها كما أن التخصص المهني للفاعل في الجريمة العمدية المرتكبة من طرفه ليست مثل الجريمة التي يرتكبها الشخص العادي. أم أن الجريمة غير عمدية مع ما تثيره هذه الأخيرة من نقاش حاد – فقها و قضاء – فيما يتعلق بمساءلة الطبيب أو عدم مساءلته جنائيا عن الخطأ الذي يرتكبه في مجال مهنته خاصة مع علمنا أن القانون الجنائي المغربي لا يفرق بين الخطأ المادي و الخطأ المهني و بين الخطأ الجسيم و الخطأ اليسير حتى تقوم المسوؤلية الجنائية.

لذلك فإن درايتنا لموضوع المسؤولية الجنائية للطبيب يفرض علينا تحديد أسسها و حصر تجلياتها في التشريع الجنائي و الطبي المغربي و ذلك ما سنحاول التطرق إليه من خلال مجموعة من المقالات سنعمد على نشرها تباعا على صدر صفحات هذه المجلة، مع وعينا أن ما ستقدمه يبقى مجرد رؤوس أقلام تحتاج لكثير من البحث و التمحيص نتمنى أن تتناولها أقلام الباحثين المغاربة إغناء للنقاش العلمي الجاد و تنويرا للممارسين و المهتمين على السواء.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *